هذه حلقة عن الشرارة التي اشعلت معركة دير الجماجم الشهيرة وهي رسالة الحجاج الهمجية الى القائد عبدالرحمن بن الاشعث بالتوغل في بلاد الملك رتبيل وعدم التوقف حتى للراحة وتأمين الجيش من خطورة التقدم غير المدروس داخل تلك الاراضي الشاسعة.
العجيب ان جيش بن الاشعث كان هو القوة الضاربة بالاراضي وكان قد أُعد احسن اعداد وبلغ من قوة اعداده ان سمي بجيش الطواويس .. ولكن لما انقلب الجيش على الحجاج لم تنهزم روح الحجاج ولم يتضعضع ولم ينكسر وانما واجههم كالجبل الاصم وقاد بنفسه مواجهة دامية قضت في النهاية على اعنف واشرس الثورات الخارجة على بني امية!
ثورة بن الاشعث الكريمة والتاريخية على القضاء على الظلم ورأسه آنذاك كانت باذن الله ستنجح نجاحاً باهراً لولا ان وقع فيها خطأ شنيع ضيع الثورة عن بكرة ابيها وقضت عليها كلها وتتمثل تلك الغلطة التاريخية في الآتي
خلاصة هذه الغلطة ان الخليفة الاموي عبدالملك بن مروان عندما رأى كيف ان دماء المسلمين قد اريقت دعاه الى ان يحقن دماء المسلمين فقام وبعث مع اخيه محمد وولده عبدالله برسالة للثائرين ضد الحجاج يقول فيها: »ان كان يرضيكم خلع الحجاج عنكم خلعناه وجعلنا مكانه محمد بن مروان وان يكون عبدالرحمن بن الاشعث اميراً على اي بلد يحب« فقام عبدالرحمن بن الاشعث فيهم خطيباً ونصحهم الى قبول العرض لما فيه من الخير وحقن الدماء وعزل الحجاج الظالم ولكن »أغبياء الثوار« رفضوا العرض تماماً ظناً منهم ان الخليفة عبدالملك لم يعرض ذلك لهم الا بسبب ضعفه, وكان ظنهم هذا اكثر من خطأ وطلبوا ان ينخلع الحجاج والخليفة عبدالملك بن مروان وكل من معه!
الحقيقة التي يجب ان نتوقف عندها هي ان عرض عبدالملك بن مروان كان عادلاً وفيه خير كثير للأمة آنذاك, وما رفض الثوار ذلك العرض العادل الا دلالة على انحراف الثورة عن هدفها السامي الذي اشعلها وهو تغيير المنكر وازالة المظالم الى هدف ساقط وهو طلب الدنيا والمناصب والسلطان وهذا هو الذي أهلك تلك الثورة وهذه هي الفائدة التي يجب ان نستفيد منها عندما نقرأ التاريخ!
عندما سارت الثورة متجهة بخيلها ورجلها عبر موكب مهيب الى العراق .. جعل الناس في العراق وما حولها ينحازون للثوار وينضمون اليهم حتى عظم امرهم وصار جملة جيش بن الاشعث اكثر من ثلاثة وثلاثين الف فارس ومئة وعشرين الف مقاتل..! والحجاج كان له جيش مقارب لهذا ايضاً في العدد حدث أول صدام مسلح بين مقدمة جيوش الثورة ومقدمة جيوش الحجاج فانتصرت مقدمة الثورة وفتكت بمقدمة الحجاج فتكاً عظيماً وذلك في 10 ذي الحجة سنة 81 من الهجرة الشريفة فلما وصلت الاخبار للحجاج قرر العودة بجنوده الى البصرة ليعيد ترتيب اوراقه فاسرع ابن الاشعث بجيوشه الضخمة وراء الحجاج ففر الحجاج هارباً من البصرة ودخلها ابن الاشعث فخطب في الناس وحضهم على قتال الظالمين ودعاهم للسير لقتال عبدالملك نفسه في الشام فوافقه اهل العراق على ذلك بما في ذلك علماؤها وفقهاؤها وعلى رأسهم سعيد بن جبير وعظم الخطب جداً وكبر امر الثورة
طلب الحجاج امداداً وجيوشاً اضافية من الخليفة عبدالملك فأمده بما يريد وهكذا جمع الحجاج جيوشه واعاد تنظيمها وقرر الهجوم على جيوش ابن الاشعث في البصرة وبالفعل في المحرم سنة 82 ه¯ اصطدم الجيشان وحمي الوطيس جداً حتى قتل من الفريقين ما لا يعد ولايحصى في ذلك اليوم..!
ومما يؤثر عن شجاعة الحجاج انه لما هجم عليهم بالبصرة أعاد جيش ابن الأشعث عليهم الهجوم, ففر جيش الحجاج وبقي وحده في الميدان.. فلما رأى الحجاج أفواج كثيرة من الفرسان قادمون إليه من بعيد .. اصطكت رجليه وأخذت ساقيه ترجفان بشدة , فقام الحجاج وجثا على ركبتيه وأخذ يقول: ما كان أكرم مصعب بن الزبير حتى صبر نفسه للقتل..!
فلما رأى جيشه ثباته رجعوا إليه وقاتلوا معه حتى أنهزم عنهم فرسان بن الاشعث .. ولما سئل الحجاج بعد ذلك لماذا جثوت على ركبتيك في ذلك اليوم? قال استحييت ان يراني أعدائي خائفا أرجف, فجثوت على ركبتي كي لايروا ساقاي ترجفان..! نعم بمثل تلك الشجاعة النادرة استطاع خبيث بنو أمية الحجاج أن يؤد ويهلك تلك الثورة الكبيرة..
بعد كر وفر من كلا الجيشين استطاع الحجاج ان يهزم بن الاشعث حتى لجأ إلى الكوفة وكان أهل الكوفة قد بايعوا عبدالرحمن بن الاشعث فقوي شأنه مرة اخرى ونظم جيوشه وحفظ الثغور والطرق والمسالك وحاول الحجاج اختراق الحراسات الى الكوفة ولكنه لم يفلح فعسكر بجيوشه في منطقة تسمى (دير قرة) ونزل ابن الاشعث وجيوشه في منطقة تسمى (دير الجماجم) ومع ابن الاشعث قرابة المائتي ألف وظل الجيشان في حالة تربص أمام بعضهما البعض فترة طويلة في تلك الفترة أرسل - كما اسلفنا في بداية المقال - الخليفة عبد الملك بن مروان أخاه محمد وولده عبد الله الى الكوفة ليقنع الثوار بالرجوع عن ثورتهم مقابل خلع الحجاج , ولكنهم رفضوا واشترطوا أن ينخلعوا معاً! وكان الحجاج يخشى ان يقبلوا بالعرض فيهلك, وكان رفضهم للعرض العادل قد ساهم في تقوية شوكة الحجاج وأن تكون كل الخلافة الأموية معه.. وهو الامر الذي حدا بعبد الملك بن مروان أن يأمر الحجاج ليكون أميراً على جميع الجيوش, فأعتمد الحجاج سياسة النفس الطويل والمصابرة فصف جيوشه أمام جيوش الثائرين ونشبت حرب أشبه ما تكون بحرب الاستنزاف بين الفريقين رغم ان جيش الثوار تأتيهم المؤونة من الأقاليم من الطعام والعلف, بينما جيش الحجاج في ضيق شديد حتى فقدوا اللحم بالكلية ومع ذلك الحجاج يصابرهم حتي انقضت هذه السنة كلها وهم على هذا الحال.
ولما دخلت السنة الثالثة من المواجهة والجيشان بينهما مبارزات فردية كل يوم وأحيانا تحمل مجموعة من هذا الجيش على الآخر والعكس وغالباً ما تكون الغلبة آنذاك لجيش بن الأشعث ومع هذا فالحجاج ثابت في مكانه صابر ومصابر لا يتزحزح عن موضعه الذي هو فيه وكان له خبرة كبيرة بالحروب ففي اثناء القتال كان يتقدم قليلا فقليلاً وشيئا فشيئا واذا تقدم شبرا لا يتزحزح عنه ومازال هكذا حتي قرر القيام بعمل ينهي هذه الثورة العاتية برمتها فأمر جنوده بالحمل مرة واحدة على موضع قوة جيش بن الاشعث وهم كتيبة القراء والعلماء والفقهاء وركز هجومه على هذه الكتيبة حتى قتل منهم خلقاً كثيراً وكان ذلك سبب انهزام باقي الجيش الذي اضطرب نظامه واختلت صفوفه وفروا في كل اتجاه وفر ابن الاشعث من أرض المعركة فأتبع الحجاج الفارين جيشا آخر فلحق بهم وأمعن فيهم القتل والتقطيع والصلب والاسر وسار خلفهم يحرر البلاد والاقاليم التي دخلت في طاعة ابن الاشعث .. حتى قضى على الثورة وأهلها جميعا..!
منقول عن الكاتب والباحث المليفي